الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
والفراديس موضع بالشام. وكرم مفردس أي معرش. {خالِدِينَ فِيها} أي دائمين. {لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا} 10 أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها. والحول بمعنى التحويل، قاله أبو علي.وقال الزجاج: حال من مكانه حولا كما يقال: عظم عظما. قال: ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها.وقال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى وضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا 10}. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي} 10 نفد الشيء إذا تم وفرغ، وقد تقدم. {وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 10 أي زيادة على البحر عددا أو وزنا.وفي مصحف أبي {مِداداً 10} وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد. وانتصب {مَدَداً 10} على التمييز أو الحال.وقال ابن عباس: قالت اليهود لما قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الاسراء: 85] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ 10} الآية.وقيل: قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح؟! فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس: {لِكَلِماتِ رَبِّي 10} أي مواعظ ربي.وقيل: عني بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فرائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما، وقال الأعشى: فعبر باللبات عن اللبة.وفي التنزيل {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ} [فصلت: 31] و{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] {وإنا لنحن نحيي ونميت} [الحجر: 23] وكذلك {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً 120} [النحل: 120] لأنه ناب مناب أمة.وقيل: أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى.وقال السدي: أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب.وقال عكرمة: لنفد البحر قبل أن ينفد ثواب من قال لا إله إلا الله. ونظير هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]. وقرأ حمزة والكسائي: {قبل أن ينفد} بالياء لتقدم الفعل. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} 110 أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله. {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ} 110 أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 110 قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري قال: يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية.وقال طاوس قال رجل: يا رسول الله! إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية.وقال مجاهد: جاء رجل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله! إني أتصدق واصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110}. قلت: والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال. وقد تقدم في سورة هود حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس. وقد تقدم في سورة النساء الكلام على الرياء، وذكرنا من الاخبار هناك ما فيه كفاية.وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل: معنى قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110} إنه لا يرائي بعمله أحدا.وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في نوادر الأصول قال: حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا مكي بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الواحد ابن زيد عن عبادة بن نسي قال: أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك؟ قال: «أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي» قلت: ما هو يا رسول الله؟ قال: «الشرك والشهوة الخفية» قلت: يا رسول الله! وتشرك أمتك من بعدك؟ قال: «يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم» قلت: يا رسول الله والرياء شرك هو؟ قال: «نعم». قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: «يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر» قال عبد الواحد: فلقيت الحسن، فقلت: يا أبا سعيد! أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم، أما تقرأ {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً 110}.وروى إسماعيل بن أسحق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال: كان عبادة بن الصامت وشداد ابن أوس جالسين، فقالا: إنا نتخوف على هذه الامة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء. وقالا: سمعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك» ثم تلا {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. قلت: وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في النساء.وقال سهل بن عبد الله: وسيل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال: من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. 110} {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا 60} [المؤمنون: 10] الآية، يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم، وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا، قيل لها: كيف يكون هذا؟ قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء.وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم: وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لابي عبد الله المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم، فقال يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا: ما أحسن صلاتك؟! فقال: وأنا مع ذلك صائم. أين هذا من قول الأشعث بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال: إنه لم يخالطها رياء، فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته، وقد تقدم في النساء دواء الرياء من قول لقمان، وأنه كتمان العمل.وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال: أنبأنا الحماني قال: أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرك، قال: «هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات».وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ 110} فقال: إنها لآخر آية نزلت من السماء.وقال عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أوحى إلي أنه من قرأ {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً 110} رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له».وقال معاذ بن جبل قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء» وعن ابن عباس أنه قال له رجل: إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال: «إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي 10} إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل»، ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه.وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال: من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها، قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك. قال ابن العربي: كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول: لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الاقران، ومواصلة الاخوان، وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا}.
|